واقعة الحذاء بين الفرحة والحاجة إلى
التغيير
ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد:
فقد أثارت واقعةُ إلقاءِ أحد الصحفيين العراقيين بحذائه في وجه الرئيس
الأمريكي "بوش" مشاعرَ فرحةٍ عارمةٍ لدى الجماهير العربية والمسلمة، لم يمكن
إخفاؤها رغم المجاملات الدبلوماسية والمذكرات شديدة اللهجة التي تقدمت بها السفيرة
الأمريكية للخارجية المصرية احتجاجاً على الموافقة الضمنية للصحافة المصرية أن
تـُظهر هذه الشماتة والفرحة مما أعدته إهانة لرئيسها، رغم أن المفترض أن الصحافة
حرة لا تملك الحكومة السيطرة عليها، فلماذا اللوم؟! أليست هذه هي الحرية؟!!
ولم
تُفلِحْ كذلك محاولات إذاعة الـ BBC في اللعب في نِسَب تعليق المستمعين لإظهار أنهم
منقسمون بين مؤيد ومعارض، ويبدو أنها تعلمت من الانتخابات العربية في محاولة التجمل
بالتزوير، فالأغلبية الكاسحة تعبر عن فرحتها ورغبتها في مزيد من الإهانات للرجل
الذي أمر بسفك دماء المسلمين، وتسبب في انتهاك حرماتهم وتدمير بلادهم.
ونحن
نلحظ من هذه الحادثة أن مشاعرَ الكراهيةِ لأعداء الإسلام والمسلمين وأعوانهم
وأذنابهم وعملائهم تتنامى في قلوب المسلمين يوما بعد يوم، لا تفلحُ مؤتمراتُ حوار
الأديان، ولا لجانُ تحسينِ الصورة، ولا الضغوطُ الرسمية في إيقافها؛ فضلا عن
تحويلها إلى مشاعر الحب والتعظيم التي كانت سائدة في أزمنة ماضية.
وكانت
قضية التبعية والشعور بالدونية تجاه الغرب هي السائدة في شعوب عربية ومسلمة كثيرة،
وإن كانت لا تزال آثارها في طبقات معينة من هذه الشعوب؛ هي التي تـَمَكَّنَ
الأمريكيون بها من أن يجدوا آلافا، بل ملايين، يقبلون التجند لهم، وحمل السلاح
نيابة عنهم في تنفيذ مخططاتهم في بلاد المسلمين.
ولا شك أن شعور الكراهية
تجاه أعداء الإسلام واجب شرعي بنص الكتاب والسنة؛ قال -تعالى-: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}
[سورة الممتحنة: 4]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أوثق
عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في
الله» [رواه الطبراني، وحسنه الألباني].
وكم سَمِعَتْ شعوبُ المسلمين
وتَسْمَعُ كلمات الحب والود والصداقة الحميمة لهؤلاء الكفار!!
وكم تَرَبَّتْ
أجيالٌ على اعتبارهم مصدر الحضارة والتقدم!!
وكم بذل الدعاة من جهود لمحاولة
زحزحة جماهير غفيرة عن التشبه بالكفار والتحذير من طاعتهم ومتابعتهم فضلاً عن الرضا
بكفرهم أو مناصرتهم على المسلمين!!
فجاءت هذه الحادثة كاشفة عن حقيقة
المشاعر لدى عامة المسلمين تجاه أعدائهم بعد أن وَعَوَاْ حقيقةَ هؤلاءِ الأعداء
وخبث طويتهم تجاه المسلمين، ولقد كانت أحداث أفغانستان والعراق وغيرها من أكبر
الأسباب لترسيخ هذه المشاعر وتنامي هذه الأحاسيس.
ولا شك أيضا أن الرغبة في
إغاظة الكفار والسعادة بحصول الذل لهم، والفرح بوجود الجرأة على طواغيتهم في قلوب
بعض المسلمين رغم أن الزمنَ هو الزمنُ الأمريكي بزعمهم، ورغم الانبطاحِ التام
والتسليم بالسيادة لهم من قـِبل الكثيرين؛ هذه المشاعر هي مشاعر تتوافق مع الكتاب
والسنة أيضا، قال -تعالى-: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ
الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ
صَالِحٌ} [سورة التوبة: 120]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري» [رواه أحمد، وصححه
الألباني].
وما ينتظرهم من الذل والصغار في دنياهم وأخراهم أعظم بكثير مما
حدث لهم، وإن كان وقعها عليهم -كما ذكرت الصحف الأمريكية- "أشد من طلقات الرصاص"؛
فقالوا: "كان أكرم لبوش أن يتلقى طلقات الرصاص من تلقيه هذا الزوج من
الأحذية".
ومع ذلك...
فلا بد لنا من الحذر من سلبياتٍ عدة في هذه
الواقعة:
منها: أن الشعور بالانتصار وذهاب غيظ القلوب، وأن ما تحقق إنجازٌ كبير؛
هو شعور وهمي؛ فما زالت أرض العراق محتلة، وما زال أحرارها يُذَلُّون ويُسجَنون
بأيدي عملاء المحتل، وما زالت حرائِرُه يُغتصَبْنَ، ولا زالت ثرواتُه، بل ثروات
المسلمين كلِهِم تـُنهَب.
ولا يتحقق النصر الحقيقي إلا بتحرير البلاد
والعباد من العدو المحتل، وإقامة دين الإسلام في الأرض {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ
وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ
غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14-15].
فالحالة "التليفزيونية" التي
انتابت الكثيرين من جرَّاء الموقف بحصول البطولة واعتبار الحدث "ضربة قاضية"؛ هي من
أعراض الخلط بين الحقيقة والخيال، التي تحصل لمن تعودوا النظر إلى "التليفزيون"،
فالحقيقة هي على أرض الواقع وليس ما تتداوله وسائل الإعلام والأقلام، ولا تزال
ضربات المجاهدين في العراق وأفغانستان وفلسطين هي التي تغير واقع البلاد، وتفرض على
المحتلِ الانسحابَ.
ومنها: أن الانبهار المبالغ فيه بمثل هذه الأعمال
الإعلامية يؤدي إلى نشأة أجيال من المسلمين تزن النجاح والفشل بالمنظر الرائع، أو
بما قاله الناس وكتبوه حتى ولو لم يغير شيئا من الواقع، أو يقرب الناس إلى طاعة
ربهم ويبعدهم عن معصيته، وهل كانت أحداث 11سبتمبر -رغم ضخامتها- وأحداث التفجيرات
المتعددة في بلاد المسلمين إلا بسبب هذه النظرة وعدم حساب المآلات والنتائج؟!
وهل كانت المشاركات السياسية عديمة الأثر التي ظن أصحابها ومناصروها أنهم
أقاموا بها دولة الإسلام بالحصول على مقاعد في البرلمان إلا بسبب هذه
النظرة؟!
"نحن لا نغتال الفرحة، ولكن نُبَصِّرُ المسلمين بحقيقة
الموازين".
ومنها: أن أبناء الصحوة الإسلامية لا ينبغي لهم أن تتحول قضيتهم
ومجالسهم ومناقشاتهم إلى حدث ما، يـُفرض على الجميع أن يكون قضية الساعة مع أن
أحداثا جساما تمر بالأمة دون انتباه أو تعليق أو حتى مناقشة، فمثلا كم من مخططات
خطيرة لتجنيد أبناء المسلمين في جيوش الكفر لتقاتل في قضاياهم بدلا عنهم!!... فهذه
أمريكا تسعى لتجنيد المصريين المقيمين في أمريكا -خاصة الإقامة غير القانونية- في
الجيش الأمريكي للعمل في العراق وأفغانستان، وربما غدا في الصومال والسودان
بالرواتب المغرية التي تصل إلى 80 ألف دولار بمجرد التوقيع على العقد، وتقنين
الأوضاع، بل ومنح الجنسية الأمريكية!!
وهناك من الشباب من يتسارع إلى ذلك،
رغبة في دنيا يصيبها ولو ببيع دينه، ولم تأخذ مثل هذه القضية -مع أنها قضيةُ كفر
وإيمان! قضيةُ ردةٍ عن الدين بمقاتلة المسلمين في صف الكافرين أو حتى معاونتهم في
أعمالهم القتالية- لم تأخذ نصيبها من الطرح والمناقشة واتخاذ الموقف!!
وكم
من مسلمين في دول كثيرة يعملون في شركات عدة تعاون المحتل لبلاد المسلمين، وتنقل له
السلاح، وتبني له المنشآت وتوفر له المؤن بما لا يستطيع توفيره لنفسه! والكل يعمل
في صمت الأموات مع أنهم دخلوا في ما نهى الله عنه بقوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة: 51]،
وقال -تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ
وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ
اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّواْ لَوْ
تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} [سورة النساء:88
-89].
وكم من مليارات الدولارات من أموال المسلمين العامة، بل والخاصة فقدت
في الأزمة المالية العالمية بسبب وضع الدول والأفراد أموال المسلمين وثرواتهم في
البنوك الربوية العالمية، والبورصات الأمريكية والأوروبية! فتحولت إلى سراب في
لحظات، وضاعت الأصفار الكثيرة في الأرصدة!، والأثر الأكبر للأزمة المالية العالمية
والضرر الأعظم ينزل بالأرصدة العربية وخاصة الخليجية، ولم تأخذ هذه القضية حظها من
التحذير والنصيحة والدعوة إلى التوبة النصوح للدول والأفراد بعدم التعامل مع النظام
الربوي العالمي! حتى ما يسمى بالبنوك الإسلامية التي تأثرت أعظم التأثر بهذه
الأزمات، ولا أحد يناقش أو يطرح أو ينبه بنفس القدر الذي حظيت به واقعةُ
الحذاء!!
فلا بد أن يكون وَعْيُنـَا أكبرَ بكثير مما يـُفرض علينا من خلال
وسائل الإعلام مثل: مباريات الكرة، والجرائم الغامضة، والبحث عن الفضائح للشخصيات
العامة كما يسمونها؛ فتضيع الساعات والأيام والشهور دون علم يـُنتفع به، أو عبادة
تزكي النفس، أو دعوة صحيحة تغير الواقع إلى ما هو أقرب إلى رضى الله، فنحن بلا شك
في حاجة إلى تغيير نمط سلوكنا إلى الاهتمام بما هو مهم في دين الله، وتعظيم ما هو
عظيم، وتحقير ما هو حقير في نظر الشرع، وأن نزن جميع الأمور بميزانه.
ونسألُ
اللهَ العظيمَ أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، وأن يذل الشرك والمشركين في
كل مكان، وأن ينجي المستضعفين من المسلمين في كل مكان، وأن يفك أسر المأسورين،
ويفرج كرب المحاصرين من المسلمين في غزة وغيرها، وهو حسبنا ونعم
الوكيل.